بقلم ايمان عمار
========================
يطلق مصطلح عصر الاضمحلال الأول في التاريخ المصري القديم على الفترة من
نهاية الأسرة السادسة وانهيار السلطة الملكية المركزية.. حتى إعادة توحيد
البلاد على يد الأسرة الحادية عشرة..وقد حكم البلاد محتلين أجانب بدو شاسو
قادمين من الشرق
و يبدو مانيتون.. أو بالأحرى أفريكانوس عن
مانيتون.. وهو يكتب مؤرخا لهذا العصر في أسوأ حالاته.. فيذكر أن الأسرة
السابعة تتكون من سبعين ملكا حكموا سبعين يوما.. ويؤرخ للأسرة الثامنة
بسبعة وعشرين ملكا في 146 عاما.. وللأسرتين التاسعة والعاشرة في هيراكليو
بوليس بتسعة عشر ملكا مجتمعين حكموا في 594 عاما.. والأسرة الحادية عشرة في
طيبة.. بستة عشر ملكا في ثلاثة وأربعين عاما..
أما رواية
إيوسيبوس عن مانيتون فتبدو أقل شطحا في الخيال.. وإن لم تستلهم من الواقع
أقله.. فعلى طول هذه المرحلة لم يذكر ملك واحد بالاسم عدا أخيتوس.. من ملوك
الأسرة التاسعة.. والذي هو أسوأ من كل أسلافه..
على أية حال ما
كتبه مانيتون لا يعدو كونه تاريخا خرافيا.. غير ذي صلة بالواقع.. لكنه في
تقسيمه العام قد وضع خطة للكتابة نناقشها فيما يلي..
تدعي إحدى
النظريات أن انخفاضا في درجة حرارة الكوكب قد أدى إلى انخفاض مخيف في مستوى
الأمطار الموسمية.. وبالتالي إلى انخفاض مستوى فيضان النيل.. وأن ذلك
الانخفاض في مستوى الفيضان قد تتابع لعقدين أو ثلاثة في أواخر حكم بيبي
الثاني.. منذ نحو 2200 سنة قبل الميلاد.. ويظهر ذلك في انخفاض مستوى المياه
في بحيرة منخفض الفيوم انخفاضا ملحوظا.. مما أدى إلى مجاعة هائلة.. ولعل
المثل المصري القديم عن انخفاض مستوى النهر حتى لتعبره على الأقدام دليل
على تلك المأساة..
و لما كان هذا الانخفاض في مستوى الأمطار
عالميا فإنه لم يكن يشمل شرق أفريقيا فحسب.. بل امتد إلى الشرق الأوسط..
مما أدى إلى نزوح جماعات هائلة من سكان شرقي النيل وغربه إلي وادي النيل
التماسا للغذاء..
و تفصيل ذلك أن البدو رغم الهزيمة المنكرة التي
لحقت بهم في عهد بيبي الأول لم يفقدوا الأمل في غزو مصر التي كانت في تلك
الفترة تزخر بالثراء والغنى.. وقد سنحت لهم الفرصة في عهد بيبي الثاني لنيل
مآربهم إذ كانت الأحوال مهيئة لذلك فقد كان كل حاكم من حكام المقاطعات
الوراثيين في الوجه القبلي منهمكا في المحافظة على مقاطعته التي تعد بمثابة
مملكة صغيرة مستقلة ضد المجاعة.. أما في الوجه البحري فيحتمل أن القوم
كانوا ملتفين حول الملك.. حيث مقر حكمه.. غير أنه ليس لدينا من الوثائق
التاريخية ما يحدد لنا الموقف بالضبط.. لكن على أية حال كان موقف الحكومة
المصرية في هذا العهد في حالة يرثى لها..
و كانت الضرائب في مصر
تحدد سنويا على أساس مستوى الفيضان.. على أساس مقدار ما يمكن للفلاح زراعته
لا على ما يزرعه فعلا.. وربما كان ارتفاع الضرائب في ظل انخفاض المحاصيل
هو الشرارة الأولى التي أدت إلى أول ثورة اجتماعية سجلها التاريخ..
و قد كان من جراء امتداد الفوضى أن ساد البلاد الخوف وانتشر القحط.. وعم
الانحلال الخلقي وعدم المبالاة بالتقاليد الدينية والمعتقدات الموروثة..
وليس لدينا وثائق تاريخية تنير لنا الطريق خلال هذا العصر المظلم اللهم إلا
معلومات ضئيلة جدا.. لكن من جهة أخرى قد اسعفتنا الوثائق الأدبية الشعبية
مما يمكن أن نسميه مراثي الدولة القديمة.. وترجع معظمها إلى أوائل الدولة
الوسطى.. والواقع أن أزمة هذا العصر قد طال أمدها فأثرت على أذهان القوم..
وبخاصة على أفكار الحكماء وأهل الفكر وعلى خيال القصاصين.. فنراهم يصورون
ما حاق بالبلاد من ضعف وشدة وما قاست من ويلات وخراب بعبارات مؤثرة قوية
خارجة من الأعماق.. بينما يشير بعضها الآخر إلى غزو الساميين حاملي
السهام..
و أهم ما وصل إلينا من هذا العصر كتاب تحذيرات نبي.. وهو
من الكتب الأدبية النادرة في حسن تركيبها وتأثيرها في النفس.. حتى أن
أدباء العصور التالية كانوا يحتذون منه نموذجا أدبيا يدرس.. ولا نبالغ إذ
نقول أن هذه القطعة الأدبية تصف لنا أول انقلاب اجتماعي معروف في التاريخ..
ولعلنا لا نبالغ إذا ما شبهناه بالثورة البلشفية في أوائل القرن العشرين..
و موضوع هذه التحذيرات هو أنه حاقت بالبلاد مصيبة شنعاء في عهد أحد حكام
الأزمان القديمة.. فثار عامة الناس على الموظفين وعلية القوم.. وعصي الجند
المرتزقة من الأجانب قادة البلاد.. ويحتمل أن الساميين قد هددوا الحدود
الشرقية أيضا.. وبذلك انحل الحكم المنظم في مصر بالجملة.. لكن الملك الطاعن
في السن كان يعيش في طمأنينة في قصره.. لأنه كان يغذى على الأكاذيب..
وعندئذ ظهر حكيم يدعى إيب ور وأخبر الملك بكل الحقيقة فوصف له البؤس الذي
عم البلاد وتنبأ بما سيأتي بعد.. وحرّض سامعيه على أن يحاربوا أعداء
البلاد.. وذكّرهم بأن العبادات لابد أن تعاد إلى ما كانت عليه..
و
العهد الذي حدث فيه هذا الانحلال لابد وأن يكون في نهاية الدولة القديمة..
وذلك أنه في ختام الأسرة السادسة اختفت مصر عن الأعين فجأة وصارت في ظلمة
كأن مصيبة عظمى قد نزلت بها.. وأن ما ذكر هنا من أن الملك الذي كان يخاطبه
الحكيم كان مسنا ليتفق تماما مع الحقائق التاريخية.. لأن الملك الذي اختفت
معه الدولة القديمة لابد وأن يكون بيبي الثاني الذي جلس على العرش في
السنة السادسة من عمره.. وحكم أربعة وتسعين عاما.. كما نقل المصريين
أنفسهم..
يبتدئ المتن بوصف البؤس العام الذي حل بالبلاد من سرقة
وقتل وتخريب وقحط.. وتفكك الإدارة والقضاء على التجارة الخارجية.. وغزو
الأجانب وتولية الغوغاء مراكز الطبقات العليا.. فيذكر الحكيم أن أهل
الصحراء قد حلوا مكان المصريين في كل مكان وأصبحت البلاد ملآي بالعصابات..
حتى أن الرجل كان يذهب ليحرث أرضه ومعه درعه.. وشحبت الوجوه وكثر عدد
المجرمين ولم يعد هناك رجال محترمون.. وفقد الناس الثقة في الأمن.. وعلى
الرغم من فيضان النيل فقد أحجم الفلاحون عن الذهاب لفلاحة أرضهم خشية
اللصوص وقطاع الطرق.. وصارت النساء عواقر ولم يعد هناك حمل.. بسبب إعراض
خنوم عن هذا العمل غير المجدي..
و أصبح المعوزين يمتلكون أشياء
جميلة.. بينما نجد الأشراف في حزن لا يشاطرون أهليهم أفراحهم.. ثم إن
القلوب صارت ثائرة والوباء انبعث في كل الأرض.. والدم أريق في كل مكان..
وكثر عدد الموتى حتى أصبحت جثثهم من الكثرة بحيث استحال دفنها.. ولذلك
فإنها ألقيت في الماء كالماشية الميتة.. وأصبح أصحاب الأصل الرفيع مفعمين
بالحزن بينما امتلأ الفقراء سرورا.. وكل بلدة تنادي قائلة.. فليقص أصحاب
الجاه عنا.. وصارت الأرض تدور كعجلة الفخاري.. فأصبح اللص صاحب ثروة..
وتحول النهر إلى دماء عافتها النفوس.. ودمرت البلاد وصار الوجه القبلي
صحراء جرداء.. وأصبحت التماسيح في تخمة بما قد سلبت.. وانتشر حفارو القبور
في كل مكان بسبب كثرة الموتى.. وخربت البيوت.. وأصبح المصريون لا يرون
الآن..
و صار الذهب واللازورد والفضة والياقوت تحلي جيد الجواري
بينما تمشي السيدات النبيلات في طول البلاد يقلن : ليت لدينا بعض الشيء
لنأكل.. وصارت أعضاؤهن في حالة يرثى لها لما عليها من خرق بالية وقلوبهن
تنفطر حزنا عندما يشاهدون أنفسهن على حالتهن هذه..
و أصبح مهندسو
السفن الملكية يشتغلون عمالا عاديين.. ولم يعد الناس يذهبون إلى ببلوص..
جبيل لبنان.. لإحضار خشب الأرز لأجل الموميات وأصبحت المدن لا تؤدي الضرائب
بسبب القلائل وأصبحت الخزينة من غير دخل..
و قضي على الضحك فلم
يعد يسمع.. بينما أخذ الحزن يمشي في طول البلاد وعرضها ممزوجا بالأسى..
وكره الناس الحياة حتى أصبح كل واحد منهم يقول : ياليتني مت قبل هذا..
والأطفال الصغار يقولون : كان يجب عليه ألا يجعلنا على قيد الحياة.. وأولاد
الأمراء يضرب بهم عرض الحائط.. والأطفال حديثو الولادة يلقون على قارعة
الطريق..
و انتزعت موميات علية القوم من مقابرهم وألقيت في الطريق
العام.. وأصبح سر التحنيط جهرا.. وألقي المواطنين على أحجار الطواحين..
وأصبح الذين كانوا يرتدون الكتان الجميل يجلدون.. واضطرت سيدات الطبقة
الراقية اللائي كن يسكن في البيوت إلى العمل الشاق في حرارة الشمس.. وأصبحت
اللائي كن على أسرة أزواجهن ينمن على مضاجع مقضة.. وصارت السيدات مثل
الجواري.. وتحولت أغاني العازفين أناشيد حزن..
و أصبح الرجل
الأحمق يشك في وجود الإله فيقول : إن عرفت أين يوجد الإله قدمت له قربانا..
وأصبحت الماشية والقطعان تندب بسبب حالة البلاد.. والرجل يقتل أخاه من
أمه.. والطرق شائكة فاللصوص يكمنون في الحشائش حتى يأتي المسافر في ظلام
الليل ليسلبوا منه حمله ويسرقوا ما عليه ثم يضربونه بالعصى حتى يقطع نفسه
ثم يذبح ظلما..
و قد انمحى ما كان يشاهد بالأمس واتلفت المحاصيل
وأصبح القوم يأكلون الحشائش.. ولم عد هناك فاكهة ولا أعشاب تقدم للطيور..
وقد أصبحت القاذورات تختطف من أفواه الخنازير بسبب الجوع.. وانعدمت
الغلال.. وجرد القوم من الملابس والعطر والزيت وصارت المخازن خاوية..
و سلبت كتابات قاعة المحاكمة الفاخرة.. وأذيعت التعاويذ السحرية التي كانت
ملكا للحكومة.. ونهبت الإدارات العامة.. ومزقت قوائمها.. وذبح الموظفون
وصار القوم يطأون بأقدامهم قوانين قاعة المحاكمة.. والفقراء يروحون ويجيئون
في البيوت العظيمة.. المحاكم العليا القديمة.. دون خوف أو وجل..
بعد ذلك يأخذ الحكيم في وصف مصائب حلت بالبلاد تفوق بمراحل تلك التي سبق أن
شكا منها.. إذ تنهار الملكية وينتصر العامة.. وهنا يظهر ثانية كيف أن
الأغنياء قد صاروا فقراء بينما أصبح الغوغاء أثرياء فيقول :
انظر.. فقد حدثت أشياء لم تحدث فيما مضى.. إذ اغتصب الفقراء القبر الملكي..
وأصبح الملك الذي دفن كصقر يرقد على نعش.. وآل الأمر إلى أن حرمت البلاد
الملكية بسبب بعض القوم الذين لا شعور لهم.. وأظهر الناس العداء للملك الذي
جعل الأرضين في سلام.. وأفشيت الأسرار الملكية وصار مقر الملك رأسا على
عقب.. وامتلأت الأرض بالعصابات واغتصب الجبناء الرجال الشجعان.. وأصبح من
لم يكن في مقدوره أن يصنع لنفسه تابوتا يملك قبرا قد اغتصبه لنفسه.. وألقي
بأرباب المكان الطاهر.. على قارعة الطريق.. وحدث أن الذي لم يكن يستطيع أن
يقيم لنفسه حجرة أن ملك فناءا مسورا.. وطرد حكام البلاد وأصبحوا ينامون في
المخازن.. واضطرت السيدات الكريمات إلى الرقاد على الفراش الخشن.. وأصبح
الرجل الميسور ينام ظمآنا.. وذلك الذي كان يستجدي العقار صار يملك الجعة
المسكرة.. والذين كانوا يملكون الملابس أصبحوا في خرق بالية.. وذلك الذي لا
ينسج لنفسه أصبح يمتلك الكتان الجميل.. ومن لم يبن لنفسه قاربا أصبح الآن
صاحب سفن.. ومن لم يكن له ما يظله أصبح يملك الأفياء..
و هؤلاء
الذين كانوا يملكون ما يأويهم أصبحوا الآن عرضة لزعازع العواصف.. وأصبح من
كان يجهل الضرب على العود يملك قيثارا.. وذلك الذي لم يكن يغني له أحد أصبح
الآن مثني عليه من معبودة الموسيقى.. وأصبح من كان ينام أعزبا بسبب الحاجة
يجد الآن سيدات نبيلات.. ومن كان لا يملك شيئا صاحب ثروة.. ويمتدحه الأمير
تملقا.. ومن كانت لا تملك صندوقا صارت صاحبة صوان.. ومن كانت تشاهد وجهها
في الماء صاحبة مرآة.. وأصبح القصابون يغشون المعبودات فيقدمون لها ذبيحة
من الأوز بدلا من الثيران.. ولم يعد هناك موظف في موضعه اللائق به.. وأصبح
الناس كالقطيع المذعور منغير راع.. أما الماشية فهي تجول ولا أحد يعنى
بها.. وكل إنسان يأخذ لنفسه ما يريد منها.. وأصبح الرجل يذبح أخوه بجواره
فيتركه في الضيق لينجو بنفسه.. ولم يعد هناك صانع يعمل إذ أن العدو قد حرم
البلاد حرفها..
ثم يأخذ الحكيم في حث المخلصين للعرش على مقاومة
أعداء الجالس عليه فيأمرهم بتدمير خصوم المقر الملكي.. صاحب الموظفين
المتفوقين والقوانين العدّة..
ثم ينتقل الحكيم إلى تذكير القوم
بعبادة المعبودات القديمة.. وكيف كانت تجري فيما مضى.. وكيف يؤول أمرها في
المستقبل.. فيذكرهم كيف كانت تجلب الإوز سمينة وتقرب.. وكيف كانت تقام عمد
الأعلام عند مداخل المعابد.. وتنقش ألواح القربان.. وكيف كان الكهنة يطهرون
المعبد.. وكيف كانت ترعى الأنظمة.. وتذبح الثيران..
ينتقل الحكيم
بعد ذلك إلى مخاطبة الملك المسن فيقول له : إن القيادة والفطنة والصدق
معك.. ولكنك لا تنتفع بها.. فالفوضى ضاربة أطنابها في طوا البلاد وعرضها..
ولكنك مع ذلك تغذى بالأكاذيب التي تتلى عليك.. فالبلاد قش ملتهب والإنسانية
منحلة.. ليتك تذوق بعض هذا البؤس بنفسك..
بعد ذلك يصف لنا الوقت
السعيد الذي يحفظه المستقبل.. فيذكر أنه عندما تشيد ايدي الناس الأهرام..
وتحفر البرك وتنشئ للمعبودات مزارع فيها أشجار.. وعندما يكون السرور شاملا
وكبار الموظفين واقفين ينظرون إلى الأفراح وهم يرتدون أجمل الثياب.. وعندما
تكون الأسرة الوثيرة ووسادات العظماء محمية بالتعاويذ التي تقيهم الأرواح
الشريرة..
بعد ذلك نشاهد فجوة في المتن.. لابد وأنها كانت تحوي رد الملك على هذا الكلام..
ثم يجيبه الحكيم بأن القوم يغطون وجوههم من المستقبل ويستمر في وصف سوء
حال البلاد.. واقتحام مقاصير القبور وحرق التماثيل.. غير أن المتن مهشم
تماما..
و نخلص من هذا المتن أن المجاعة قد حدثت.. تلتها ثورة اجتماعية.. واكبها غزو أجنبي أطاح بالدولة من أساسها..
بحث كامل عن السحر فى مصر القديمة |
بحث كامل عن الأسكندر المقدونى |
بحث كامل عن مقابر بنى حسن |
بحث كامل عن دير سانت كاترين |
بحث كامل عن الهكسوس |
0 التعليقات:
إرسال تعليق